الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: إنهما ليسا في الأحياء، ولا معمران، وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما، فقال الإمام أحمد: من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا شيطان. وسئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد؟). وقال أبو الفرج ابن الجوزي: قوله تعالى:
/ هل كان الخضر ـ عليه السلام ـ نبيًا أو وليًا ؟ وهل هو حي إلى الآن؟ وإن كان حيًا فما تقولون فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كان حيًا لزارني) هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ فأجَـاب: أما نبوته: فمن بعد مبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه ولا إلى غيره من الناس، وأما قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلف في نبوته، ومن قال: إنه نبي، لم يقل: إنه سلب النبوة، بل يقول: هو كإلياس نبي، لكنه لم يوح إليه في هذه الأوقات، وترك الوحي إليه في مدة معينة ليس نفيًا لحقيقة النبوة، كما لو فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء مدة رسالته. وأكثر العلماء على أنه لم يكن نبيًا، مع أن نبوة من قبلنا يقرب كثير منها من الكرامة والكمال في الأمة، وإن كان كل واحد من النبيين أفضل من كل /واحد من الصديقين كما رتبه القرآن، وكما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق)، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن كان الرجل ليسمع الصوت فيكون نبيًا). وفي هذه الأمة من يسمعه ويرى الضوء وليس بنبي؛ لأن ما يراه ويسمعه يجب أن يعرضه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه تيقن أن الذي جاء من عند اللّه يقين لا يخالطه ريب، ولا يحوجه أن يشهد عليه بموافقة غيره. وأما حياته: فهو حي. والحديث المذكور لا أصل له، ولا يعرف له إسناد، بل المروي في مسند الشافعي وغيره: أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال: إنه لم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قال ما لا علم له به، فإنه من العلم الذي لا يحاط به. ومن احتج على وفاته بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد) فلا حجة فيه، فإنه يمكن أن يكون الخضر إذ ذاك على وجه الأرض. ولأن الدجال ـ وكذلك الجساسة ـ الصحيح أنه كان حيا موجودا /على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باق إلى اليوم لم يخرج، وكان في جزيرة من جزائر البحر. فما كان من الجواب عنه كان هو الجواب عن الخضر، وهو أن يكون لفظ الأرض لم يدخل في هذا الخبر، أو يكون أراد صلى الله عليه وسلم الآدميين المعروفين، وأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم، كما لم تدخل الجن، وإن كان لفظًا ينتظم الجن والإنس. وتخصيص مثل هذا من مثل هذا العموم كثير معتاد. واللّه أعلم.
/ فأَجَــاب: أما الحديث المسؤول عنه، كونه صلى الله عليه وسلم يعلم وقت الساعة، فلا أصل له، ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد وقت الساعة نص أصلًا، بل قد قال تعالى: وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ وهو في مسلم من حديث عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: متى الساعة؟ قال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل). فأخبر أنه ليس بأعلم بها من السائل، وكان السائل في صورة أعرابي، ولم يعلم أنه جبريل إلا بعد أن ذهب وحين أجابه لم يكن يظنه إلا أعرابيا، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن نفسه: إنه ليس بأعلم بالساعة من / أعرابي، فكيف يجوز لغيره أن يدعي علم ميقاتها؟! وإنما أخبر الكتاب والسنة بأشراطها، وهي علاماتها، وهي كثيرة تقدم بعضها، وبعضها لم يأت بعد. ومن تكلم في وقتها المعين، مثل الذي صنف كتابًا سماه [الدر المنظم في معرفة الأعظم] وذكر فيه عشر دلالات بين فيها وقتها، والذين تكلموا على ذلك من [حروف المعجم] والذي تكلم في [عنقاء مغرب] وأمثال هؤلاء، فإنهم وإن كان لهم صورة عظيمة عند أتباعهم، فغالبهم كاذبون مفترون، وقد تبين لديهم من وجوه كثيرة أنهم يتكلمون بغير علم؛ وإن ادعوا في ذلك الكشف ومعرفة الأسرار، وقد قال تعالى:
/ فَأَجـاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر. وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة، فيصير صالحو البشر أكمل من حال الملائكة. قال ابن القيم: وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه.
/ فأَجَـاب: قد ثبت عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: إن الملائكة قالت: يا رب، جعلت بني آدم يأكلون في الدنيا ويشربون ويتمتعون، فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا. قال: (لا أفعل). ثم أعادوا عليه فقال: (لا أفعل). ثم أعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا فقال: (وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان). ذكره عثمان ابن سعيد الدارمي، ورواه عبد اللّه بن أحمد في كتاب[السنن]عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وعن عبد اللّه بن سلام أنه قال: ما خلق اللّه خلقًا أكرم عليه من محمد، فقيل له: ولا جبريل ولا ميكائيل ؟ فقال للسائل: أتدري ما جبريل وما ميكائيل؟ إنما جبريل وميكائيل خلق مسخر كالشمس والقمر، وما خلق اللّه خلقًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك. وهذا هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو: أن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة. ولنا في هذه المسألة [مصنف] مفرد ذكرنا فيه الأدلة من الجانبين.
/ فأَجَــاب: الحمد للّه، بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: الثاني: {كُلُّهُمْ}، وهذا من أبلغ العموم. الثالث: قوله: {أَجْمَعُونَ} وهذا توكيد للعموم. فمن قال: إنه لم يسجد له جميع الملائكة، بل ملائكة الأرض، فقد رد القرآن /بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى؛ وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة، الذين يجعلون [الملائكة] قوى النفس الصالحة، و[الشياطين] قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل؛ ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب [رسائل إخوان الصفا] وأمثالهم من القرامطة الباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة. وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه. ومذهب المسلمين، واليهود، والنصارى، ما أخبر اللّه به في القرآن، ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين، لكن أبوهم إبليس هو كان مأمورًا فامتنع وعصى، وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود، وبعضهم من الجن؛ لأن له قبيلًا وذرية، ولكونه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور. والتحقيق أنه كان منهم باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله، ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا غيرهما. وما ذكره صاحب خواص القرآن وأمثاله من خلاف فأقوالهم باطلة، قد بينا فسادها وبطلانها بكلام مبسوط ليس هذا موضعه. وهذا مما استدل به أهل السنة على أن آدم وغيره من الأنبياء والأولياء /أفضل من جميع الملائكة؛ لأن اللّه أمر الملائكة بالسجود له إكرامًا له؛ ولهذا قال إبليس: و[الجنة] التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة هي: جنة الخلد، ومن قال: إنها جنة في الأرض بأرض الهند، أو بأرض جدة، أو غير ذلك، فهو من المتفلسفة والملحدين، أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين، فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة. والكتاب والسنة يردان هذا القول. وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول. قال تعالى: وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض، وإنما أهبطوا إلى الأرض؛ فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى ـ كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض ـ لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده؛ وكذلك قال في الأعراف لما قال إبليس: /فقوله: وأيضًا، فإن بني إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون، والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال: نزل فيها؛ لأن في عادته أنه يركب في سيره، فإذا وصل نزل عن دوابه. قال: نزل العسكر بأرض كذا، ونزل القُفَّل [القُفَّل: الرُّفقة والجماعة في السفر] بأرض كذا؛ لنزولهم عن الدواب. ولفظ النزول كلفظ الهبوط، فلا يستعمل هبط إلا إذا كان من علو إلى سفل. وقوله: / والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فلماذا أخرجتنا وذريتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالته وكلامه فهل تجد في التوراة: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم. قال: فلماذا تلومني على أمر قدره اللّه علىَّ قبل أن أخلق؟ فقال: فحج آدم موسى)، وموسى إنما لام آدم؛ لما حصل له وذريته بالخروج من الجنة من المشقة والنكد، فلو كان ذلك بستانًا في الأرض، لكان غيره من بساتين الأرض يعوض عنه. وآدم ـ عليه السلام ـ احتج بالقدر؛ لأن العبد مأمور على أن يصبر على ما قدره اللّه من المصائب، ويتوب إليه، ويستغفره من الذنوب والمعائب. واللّه أعلم.
|